في دوار بعيد عن صخب المدن، حيث تنمو الأحلام بصمت وتعيش البساطة في كل زاوية، عملنا كفريق ملتزم بمشروع الدعم النفسي والاجتماعي لمساعدة الأطفال المتضررين من الزلزال، كانت القرية بحاجة ماسة إلى لمسة أمل، إلى ضحكات الأطفال البريئة لتضيء حياتهم القاسية من خلال أنشطة متنوعة من الرسم والتلوين، وألعاب البازل، و صنع العجين، والمسابقات المتعددة، استعدنا بريق الفرح المفقود في عيونهم.
جنباً إلى جنب مع السيد يوسف مساعدي في الورشة، سعينا لتحقيق هذا الهدف النبيل، وزرعنا بذور الأمل في نفوس الأطفال الصغيرة في كل يوم، شهدنا معجزات صغيرة تجسد قوة الإنسانية: ابتسامة طفل تحوّل الألم إلى فرح، ورسم بسيط يعيد إشراقة الأمل، كان إيماننا بقدرتنا على التغيير هو النور الذي يقودنا لتحقيق الأمل المنشود في حياتهم، وكل لحظة معهم كان يملأها التفاؤل والإصرار لصنع فارق حقيقي.
في أحد الايام الاربعة من الورشة بينما كنا منهمكين في توزيع الأدوات وتنظيم الأنشطة، لمحت فتاة تطل علينا من بعيد بنظرات حائرة كانت تراقبنا بحذر، وكأنها تخشى الاقتراب، بادرتها بلطف وابتسامة مشجعة: "يمكنك الانضمام إلينا"، ردت بابتسامة خجولة، متناقضة تمامًا مع ملامحها التي تعكس تعب الأيام وقلة الحيلة تقدم السيد يوسف نحوها وسألها بلطف عن اسمها لم نسمع صوتها، لولا تحرك شفتيها ببطء كشف عن جوابها: "اسمي كوثر"، سألتها بدوري برفق: "كم عمرك؟" أجابت بصوت منكسر، بالكاد مسموع: "عمري 12 سنة". كان في نبرتها شيء من الحزن والانكسار، كأنها تحمل على عاتقها هموم العالم بأسره، فيما كان يجب أن تكون في عالم الطفولة البريء، تعيش لحظاتها بفرح وسعادة.
تابعت الحديث معها، محاولة التخفيف من شعورها بالخجل: "هل تدرسين؟ في أي صف أنت؟" نظرت إليَّ بعيون تحمل في طياتها الكثير من الحزن والألم، وأجابت ب: "لا، تركت المدرسة بعد الصف السادس، مثل كل فتيات القرية"، كانت نبرتها كأنها تحمل في صداها أعباء تقيلة، شعرت بقلبي ينقبض من ألم كلماتها، ووجدت نفسي أفكر في كمية الظلم الذي تعانيه.
كانت كوثر، تلك الفتاة التي كان يجب أن تكون في أوج طفولتها، تتعلم وتلعب وتضحك، محاصرة بمسؤوليات تفوق سنها بكثير، بدلاً من أن تكون محاطة بالكتب والدفاتر، كانت محاطة بالأعباء المنزلية ورعاية أختها الرضيعة. قالت لي بصوت مبحوح: "أمي تعمل طوال اليوم لتوفير لقمة العيش، لذا أنا أعتني بالبيت وأختي الصغيرة." لم تكن كلماتها مجرد سرد للواقع، بل كانت صرخة ألم مكتومة تحمل في طياتها الكثير من الحرمان رأيت في عينيها أحلامًا مكبوتة وآمالًا موؤودة قبل أن تولد، تواجه الحياة بقدر كبير من التحدي والحرمان، مما جعلها تفقد الكثير من بريق طفولتها وبراءتها.
تساءلت في نفسي كيف يمكن لهذه الفتاة الصغيرة أن تتحمل كل هذه المسؤوليات؟ كيف يمكن لها أن توازن بين طفولتها المفقودة ومسؤولياتها الثقيلة؟ كان في كلامها تعبير عن واقع مرير تعيشه العديد من الفتيات في هذه القرية هنالك، حيث يكون التعليم مجرد حلم بعيد المنال، يختصر مستقبل الفتيات في الزواج المبكر والأعمال المنزلية.
نظرت إلى كوثر مرة أخرى، محاولةً أن أجد كلمات تواسيها، لكني وجدت نفسي عاجزة عن قول أي شيء يمكن أن يخفف من ألمها، كل ما استطعت فعله هو أن أمسك بيدها بلطف، محاولاً أن أنقل لها بعض من الأمل والطمأنينة، شعرت بأن يديها كانت باردة كأنما تحاول أن تتشبث بأي ذرة من الدفء والأمان.
في تلك اللحظة، أدركت أن مهمتنا في هذا الدوار ليست فقط تقديم الدعم النفسي والاجتماعي، بل هي أكثر من ذلك بكثير، إنها محاولة لإعادة الأمل إلى قلوب هؤلاء الأطفال الذين يعانون في صمت، ومحاولة لإعطائهم بصيص من الأمل في مستقبل أفضل.
تذكرت كلماتها عندما قالت لي: "كل الفتيات هنا يتركن المدرسة بعد الصف السادس، لا يوجد روضة في القرية، والتعليم ليس له أهمية هنا" كانت كلماتها تشبه طعنة في القلب، تجسد واقعاً مريراً يعاني منه العديد من الأطفال في هذا المكان النائي.
فقصة كوثر، واحدة من عديد القصص التي تكشف لنا قسوة الحياة في هذا الدوار، وحجم التحديات التي يواجهها الأطفال هنا، كانت كوثر مثالاً حياً على براءة مسلوبة وأحلام معطلة "ففي هذه القرية" يُنظر إلى التعليم على أنه رفاهية وليس حقاً أساسياً، تترعرع الفتيات في بيئة تفتقر إلى الاهتمام بتعليمهن، مما يجعل مستقبلهن مظلماً ومحدود الفرص فينتهي الأمر بهن إلى ترك المدرسة والزواج في سن مبكرة، ليجدن أنفسهن في دوامة من الفقر ومسؤوليات لا تنتهي، يعيشون تحت كنف الظروف القاسية ويعيدون تكرار قصة والداتهن.
هذا الواقع المرير يترك أثراً بالغاً على نفسيات هؤلاء الفتيات، فهن ينشأن بشخصيات هشة وضعيفة، تفتقر إلى الثقة بالنفس والأمل في مستقبل أفضل، يعيشون في ظل ظروف قاسية تمنعهن من تحقيق أحلامهن وطموحاتهن. إن التعليم، الذي يمكن أن يكون مفتاحاً للخروج من هذا الوضع المزري، غير معترف به في هذه القرية، مما يحرمهن من فرصة تحسين حياتهن والهروب من دائرة الفقر والجهل.
قصة كوتر وأمثالها من الفتيات في هذه القرية تذكرنا بمدى أهمية التعليم وضرورة توفير بيئة تعليمية مناسبة للجميع، علينا أن ندرك أن التعليم ليس مجرد حق، بل هو وسيلة أساسية لتحسين جودة الحياة وفتح أبواب الفرص المستقبلية، إنه الطريق الوحيد الذي يمكن أن يحررهن من القيود التي تفرضها عليهن الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية.
علينا أن نكون صوت هؤلاء الفتيات، وأن نسعى بجد واجتهاد لضمان حصولهن على حقهن في التعليم والحياة الكريمة يجب أن نتحد جميعًا، أفرادًا ومجتمعات، لنعمل على تحسين الظروف المحيطة بهن وتوفير الدعم اللازم ليتمكنّ من بناء مستقبل مشرق ومليء بالأمل، إن مسؤوليتنا لا تتوقف عند مجرد تقديم المساعدة، بل تتعدى ذلك إلى خلق بيئة تحترم حقوقهم وتقدّر أحلامهن.
إن مأساة كوتر ليست مجرد قصة فتاة واحدة، بل هي قصة العديد من الفتيات اللواتي يعانين في صمت، عندما نتحدث عن حق الفتيات في التعليم، فإننا نتحدث عن حقهن في حياة كريمة ومستقبل واعد، التعليم هو المفتاح الذي يفتح لهن أبواب الفرص ويمنحهن القدرة على تغيير واقعهن، يجب أن نكون مدافعين شرسين عن حقهن في التعلم، وأن نعمل بلا كلل لرفع الوعي بأهمية هذا الحق.
لكن الأمر لا يقتصر فقط على تقديم الدعم التعليمي، بل يجب أن نعمل على تحسين كافة جوانب حياتهن، يجب أن نضمن لهن بيئة آمنة ومستقرة، حيث يمكنهن النمو والتطور دون أن يثقل كاهلهن أعباء لا تناسب أعمارهن.
التعليم ليس رفاهية، بل هو حق أساسي لكل طفل، وبدونه تكون الحياة صعبة الفتيات مثل كوتر يستحقن أن يعشن طفولة سعيدة، ملؤها اللعب والتعلم والاستكشاف ،يجب أن نتذكر أننا نملك القدرة على إحداث تغيير حقيقي في حياتهن وأن نؤمن بأن كل جهد نبذله يمكن أن يحدث فرقًا كبيرًا ،قد يبدو الطريق طويلًا وشاقًا، لكن مع كل خطوة نخطوها، نحن نقترب من تحقيق هدفنا في بناء مستقبل أفضل لهن.
علينا أن نكون القوة التي تدفعهن للأمام، الأمل الذي يضيء طريقهن، واليد التي تمتد لمساعدتهن عندما يتعثرن. يجب أن نكون الأصوات التي تتحدث نيابة عنهن، والمناصرين الذين لا يتوقفون عن الدفاع عن حقوقهن.
إن تحسين حياة هؤلاء الفتيات لا يتطلب فقط جهودًا فردية، بل يتطلب أيضًا تضافر الجهود على مستوى المجتمع ككل يجب أن نعمل جميعًا معًا، الحكومات والمؤسسات التعليمية والمنظمات غير الحكومية والأفراد، لضمان أن تكون هناك سياسات وبرامج تدعم حق الفتيات في التعليم وتوفر لهن البيئة المثلى للنمو والتطور.
علينا أن نبني مدارس في كل قرية، أن ندرب المعلمين على التعامل مع الأطفال في ظروف صعبة، وأن نقدم الدعم المالي للأسر التي تحتاج إليه كي لا تكون هناك فتاة مضطرة لترك التعليم بسبب الفقر، يجب أن تكون هناك حملات توعية مستمرة لتغيير العقليات التي لا ترى في تعليم الفتيات أولوية.
من خلال هذه الجهود المشتركة، يمكننا أن نحدث تغييرًا حقيقيًا ودائمًا، يمكننا أن نمنح الفتيات مثل كوتر فرصة ثانية، فرصة العيش بكرامة يجب أن نتذكر أن كل فتاة تستحق أن تعيش حياة مليئة بالأمل والفرص، إن مستقبل مجتمعنا يعتمد على تعليم ودعم هؤلاء الفتيات، لأنهن سيصبحن قادة المستقبل، المبدعات والمبتكرات، إن تمكينهن هو استثمار في مستقبلنا جميعًا، ومن خلال تحقيق أحلامهن، نحن نساهم في بناء عالم أفضل للجميع.
لذا، دعونا نتحد جميعًا ونعمل معًا من أجل توفير التعليم والدعم لكل فتاة في كل قرية.
في النهاية، قصة كوتر وأطفال هذه القرية هي دعوة لنا جميعاً لنكون أكثر وعياً واهتماماً بمسؤوليتنا تجاه الأجيال القادمة في المستقبل يبدأ من هنا، من قرى صغيرة مثل دوارنا هذا، ومن قلوب الأطفال الذين يحتاجون إلى دعمنا وحبنا، دعونا نعمل معاً لنحقق لهم أحلامهم ونمنحهم الفرصة ليعيشوا حياة كريمة تستحقها طفولتهم.